رغم وجود أكثر من 25 طالباً، إلا إن القاعة هادئة تماماً في الدور الأرضي الذي يقبع فيه قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة الملك سعود حيث المحاضرة التي بدأت للتو. فقط صوت الطباشير القديمة على السبورة الخضراء في القاعة قطع هذا الهدوء، ثم لحظة توقّف والتفاتة سريعة بعينين متقدتين وحضور مدهش من البروفيسور علي بكر جاد، أستاذ الترجمة المخضرم، موجّها سؤالاً لطلاّبه لا يمكن لأي أحد أن يجيب عليه. لم يكن يبحث أستاذنا القدير عن إجابة معرفية ساذجة في عصر كانت المعرفة ضالة الإنسان. بل كان يستهدف شيئاً آخر. كانت مثل هذه اللحظات بالنسبة لأولئك الذين كانوا في القاعة وقتها، ولحسن حظ كاتب هذه السطور، الذي كان بينهم، نادرة ولا تقدّر بثمن. لقد منحهم هذا الأستاذ القدير بسخاء كبير الفضول الذي يحتاجونه في التساؤل، والشجاعة التي يفتقدونها في التحقيق والبحث، والحرية الأكاديمية في التعبير والتصريح.
هذه الروح التي تحوّل التعلّم والتعليم إلى نوع من المغامرة الجميلة والمثيرة هي العلامة الفارقة، التي يتّسم بها هذا الأستاذ القدير طوال 56 سنة قضاها في جامعة الملك سعود بالرياض، منذ أن انتمى للجامعة كطالب في دفعتها الثانية في عام 1378 هـ وحتى تقاعده كأستاذ فيها في عام 1434 هـ. عاش طفولته بعد أن غربله اليتم والفقر في المدينة المنورة، وغادرها وهو في الثامنة عشرة من عمره متخرّجاً من المعهد العلمي متوجها نحو الرياض، التي يعيش فيها حتى الآن. لغة الدكتور علي جاد وهو يتحدث عن نفسه مليئة بالسخرية اللاذعة والمفارقات المدهشة. يقول عن نفسه: إنه حصل على الشهادة الابتدائية في عهد الملك عبد العزيز- طيب الله ثراه- ونال شهادة الليسانس أو البكالوريوس في عهد الملك سعود- رحمه الله- ونال درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد البريطانية العريقة في عهد الملك فيصل- رحمه الله- ثم أصبح عميداً لكلية الآداب في عهد الملك خالد- رحمه الله- ثم تقاعد في عهد الملك فهد- رحمه الله- ثم تعاون مع الجامعة بعد التقاعد في عهد الملك عبدالله- رحمه الله- ثم انتهت علاقة أستاذنا بالجامعة، وأصبح يناكف الجمهور في تويتر بسخريته اللاذعة في عهد الملك سلمان- حفظه الله وأطال عمره.
ليس من المبالغة عندما نقول: إن الدكتور علي جاد هو الأكثر تأهيلاً في مجال الترجمة، فقد صال وجال في دهاليزها المعقدة؛ إذ أهدى مؤخراً كلية سانت أنتوني ومكتبة المعهد الشرقي التابعين لجامعة أكسفورد العريقة عشرة كتب في الجيولوجيا والطب والتشريح والجواهر وحقول أخرى متعددة، كانت مكتبة لبنان قد كلّفته بترجمتها ثم نشرتها له. كتب الدكتور جاد عن روايتين لصنع الله إبراهيم، الذي توفّي الأسبوع الماضي في كتاب نشرته جامعة أكسفورد. كما يحتفظ أستاذنا بترجمتين نادرتين لمعجمين ضخمين، مازال يحتفظ بهما في رفوف مكتبته لم تجدا طريق النشر بعد. ما يرفع قدر أستاذنا علي جاد ليس علمه فقط، بل ذلك التواضع العميق الذي يميّزه، فلم يسع يوماً إلى الأضواء، ولم يطارد دور النشر، أو يلاحق بريق الاعتراف. أثره باق وإن اختار الصمت.
khaledalawadh @