في عالمٍ يركض بنا ركضاً محموماً، حيث تلاحقنا المواعيد وتتنافس على أسماعنا أصوات الأجهزة والشاشات، يبدو الملل لكثيرين عيباً ينبغي محوه، ونقيصة لا تُحتمل. لكن، كم منّا جرّب أن ينسحب من هذا الصخب، ولو لساعةٍ واحدة، ليعيد إلى ذهنه صفاءه، ويغسل روحه من غبار الأيام؟ كم من إنسان تجرأ على أن يمنح نفسه استراحة حقيقية، يتخلّى فيها عن كل ما يقيّده من إشعارات ورسائل وأعمال، فيتذوق طعم السكون العميق الذي طالما خشيناه؟ إننا، في واقع الأمر، أحوج ما نكون إلى تلك اللحظات التي يصفها الناس بالملل، لا لأنها فراغٌ عقيم، بل لأنها دواء خفيّ ينقّي العقل ويجدّد الروح.
وقد وجدتُ هذا المعنى جلياً في مقالٍ قرأته على موقع “فوربس”، يقرر فيه علماء الأعصاب أنّ الملل ليس عارضاً تافهاً، بل ضرورةٌ لصحة الدماغ وسلامته. فالدماغ الذي لا يتوقف عن العمل لحظةً، يحتاج إلى فسحات من السكون؛ كي يطرح فضلاته الكيميائية ويعيد ترتيب مساراته، تماماً كما تحتاج المدينة إلى عمال النظافة كل فجر لتستعيد عافيتها. النوم يحقق بعض هذا الترميم، غير أنّ الملل الواعي يمنح الذهن فرصةً أوسع لأن يسبح في فضاءٍ بلا قيود، فيلتقط ومضات الإبداع ويستحضر صفاء الرؤية.
ويؤكد هذا الطرح ما ذهب إليه أستاذ هارفارد آرثر سي. بروكس في مقاله الشهير بمجلة”هارفارد بزنس ريفيو”؛ إذ يرى أنّ الملل الذي نحسبه خصماً لحياتنا، إنما هو رفيقٌ ضروري لمعناها. فاللحظات التي نتوقف فيها عن الانشغال تفعّل في أدمغتنا ما يعرف بـ”شبكة الوضع الافتراضي”، وهي مساحةٌ عصبية توقظ فينا أسئلة الوجود الكبرى: ما الغاية؟ إلى أين نسير؟ وما مغزى هذا السباق اليومي؟ ونحن إذ نغرق في شاشات هواتفنا كلما شعرنا بأدنى فراغ، إنما نغلق الأبواب أمام هذه التساؤلات العميقة، فنحرم أرواحنا من زادها، ونترك القلق والاكتئاب يتسربان إلى حياتنا دون أن نشعر.
ولعلّ أعظم ما يقترحه بروكس أن نتدرّب على”تمارين الملل”: أن نذهب إلى الصالة الرياضية بلا هاتف، أن نأكل بلا شاشات، أن نقطع مسافة الطريق من دون موسيقى أو بودكاست، وأن نسمح لعقولنا أن تحلّق حرةً في سماء الصمت. قد نظنّ هذه الدقائق هدراً للوقت، لكنها في حقيقتها نبعٌ صافٍ يفيض بأفكار مبتكرة ولحظات إلهام، مثلما تحدّث كثير من المبدعين عن ومضاتٍ جاءت في حمام دافئ أو نزهةٍ متأنية أو حتى أثناء ترتيب أثاث المنزل. إنّها لحظات “الإشراق” التي تتفتح فيها أعمق الرؤى من رحم السكون.
وليس هذا دعوةً إلى كسلٍ أو بطالة، بل إلى ما يسميه الإيطاليون “حلاوة عدم فعل شيء”، وهو فنّ التوقف المقصود الذي يشبه سكتات الموسيقى بين النغمات. فكما لا يكتمل جمال اللحن بلا صمت، لا يكتمل اتزان الروح بلا فسحات من فراغ نتأمل فيها ذواتنا. ويمكننا إلى جانب قوائم الأعمال اليومية أن نصنع “قائمة كينونة” ندرج فيها لحظات للحضور الخالص، لحظات نعيشها لا لنعمل بل لنكون.
وما أبعد هذا المعنى عن ثقافتنا العربية والإسلامية؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:”نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”. إنّه الفراغ الإيجابي الذي يُعيد إلينا وعينا بنعمة الوقت، ويعلّمنا أن الفراغ بابٌ للتفكر لا ثغرة للكسل.
دعوة إلى استعادة نعمة الملل في زمن الضجيج
