مقالات الكتاب

فاصلة

فيما كنت أراجع وأصحح مسودة كتاب لأحد الأصدقاء تشككت في علامات الترقيم. هل توضع بعد الكلمة مباشرة، أم أترك فراغًا، ثم أضع النقطة أو الفاصلة. وقبل الجواب على ذلك، وجدت في ذاكرتي قصة تستحق إثباتها. فقد اجتمعت الجمعية العمومية لعكاظ عام 1964م، وقررت إرسال برقية للمقام السامي، أنهم توافقوا على تعيين المدير العام ورئيس التحرير للمؤسسة الوليدة، بعد انتهاء صحافة الأفراد وقيام صحافة المؤسسات. ولكنهم أثناء صياغة البرقية تهيبوا أن يكتبوا كلمة قف للمقام السامي، كما جرت العادة في إرسال البرقيات. لأن أجهزة ذلك الزمان ليس فيها نقاط بين العبارات، بل يكتبون قف. فاستنجدوا بالسيد أحمد شطا، فقال لهم: اكتبوا بين كل عبارة وعبارة فاصلة بدلًا من قف.
وجدت أن الشيخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، وهو حجة في كتابة البحث العلمي، وله مؤلف كبير فيه يضع الفواصل بين العبارات بعد فراغ لطيف. وهذا مثال مما سجله في كتابه”فقه المعاملات الحديثة”. قال: نبه العلامة الفقيه شهاب الدين القرافي- رحمه الله تعالى- إلى الجوانب التي ينبغي أن يستكملها الفقيه في دراسته وفتاواه:
” وكم يخفى على الفقيه والحاكم الحق في المسائل الكثيرة بسبب الجهل بالحساب، والطب، والهندسة ينبغي لذي الهمم العالية أن لا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم”.
لقد أكرمني فضيلة الشيخ أبو سليمان- رحمه الله- قبل 19 سنة بإهدائي نسخة من هذا الكتاب القيم عن المعاملات الحديثة؛ الصادر عن دار ابن الجوزي، وهو في أكثر من 600 صفحة. وفيما كنت أدقق عن حكم النقطة والفاصلة في الكتابة، وجدت صيدًا أكبر يتمثل فيما ذكره الإمام القرافي بضرورة الوعي بالعلوم الأخرى، فلا يكون العالم متخصصًا في فن واحد من العلوم لا يعرف غيره. ومن طرائف شيخي الدكتور صالح با قلاقل، أنه كان ضد التخصص. ويسميه ساخرًا التخسّس. وكان علماء السلف مع تعمقهم في الفقه عندهم إلمام ممتاز بعلوم الطب والرياضيات والفلك، وغير ذلك من العلوم. ومن الجانب الآخر، فلابد لرجال الأعمال والمحاسبين والمصرفيين والمهندسين وغيرهم من الاستبحار في علوم الشريعة. ولما ألف الشيخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان مثلًا كتابه، بعنوان توسعة المسعى عزيمة لا رخصة استعان بكبار السن من أهل مكة المكرمة، الذين عرفوا حدود المسعى. فالشيخ- رحمه الله- لم يكن مقتصرًا على علم الفقه وأصوله، الذي تخصص فيه؛ بل كان مهتمًا بغيره من العلوم والقضايا والتجارب؛ ما أهله لعضوية هيئة كبار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *